• الفلسفة والعلم

    الفلسفة والعلم

    قد يوحي لنا هذا العنوان بعدة أسئلة, تكون في مجملها, الإشكالية الأساسية لهذا الموضوع . نذكر منها ما يلي: متى تصبح المعرفة فلسفة أو علما؟ و ما هي العلاقة بينهما؟ ماهي طبيعة كل منهما؟ هل يعتبر كل منهما شرطا ضروريا, وأساسيا لنشأة الآخر؟ وهل هناك اتصال أم انفصال بينهما؟

     

     

    إن الاهتمام بالفلسفة والعلم ,قديم قدم الإنسانية ذاتها, فمن خلالهما حاول الإنسان فهم الطبيعة والسيطرة عليها, حتى يجلب لنفسه السعادة والرفاهية . إنهما صنفان من التفكير, يهدفان إلى الوصول إلى الحقيقة في صفائها, وإدراكها, بعيدا عن كل نزعة فردية, أو ذاتية.وإن كان لكل منهما طابعه الخاص,و مجاله الخاص, و أسلوبه ,وأدواته, ومنهجه, في معالجة القضايا التي تشغله, والبحث في الظواهر التي لا تثبت على حال, والموجودات الكونية, المتغيرة باستمرار . حتى يقف على القوانين التي تحكمها, والعلل الأولى التي تكمن وراءها, فيقدم بذلك أجوبة معرفية , يستطيع من خلالها ربط الماضي بالحاضر, وفهم المستقبل على أساس هذا الحاضر.

    وقد اختلف المفكرون حول مدى أسبقية كل منهما للوجود فهيدجر يقول :{… من اليقين أنه ما كان للعلوم أن توجد, لو لم تسبقها الفلسفة وتتقدم عليها .}بينما يرى ألتوسر خلاف ذلك إذ يقول :{ لكي تولد الفلسفة أو تتجدد نشأتها لابد من وجود علوم , لربما كان هذا هو السبب, في أن الفلسفة بالمعنى الدقيق, لم تبدأ إلا مع أفلاطون .وقد أدى إلى ذلك وجود الرياضيات اليونانية .} (التوسر عن مجلة الجدل ص75) ويسانده في الرأي هيجل الذي يرى بأن الثورة العلمية تسبق دائما الثورة الفلسفية . فعلى حد تعبيره: (أن الفلسفة تظهر في المساء, بعد أن يكون العلم, الذي ولد في الفجر قد قطع زمن يوم طويل .) والحقيقة ,هناك علاقة تأثير وتأثر بين الفلسفة والعلم . فكلاهما يستمد تكوينه من الآخر . فالعلم يبدأ من حيث تنتهي الفلسفة , والفلسفة تنشأ حين يتوقف العلم .إن العلوم وخاصة منها الرياضيات, تدرب العقل على استخدام التجريد والتعميم. وهي مفاهيم أساسية في الاستدلال والاستنباط والقياس, التي لا مفر للفيلسوف منها .ولذلك كان أفلاطون يحث على دراسة الرياضيات, باعتبارها عنصرا أساسيا في تكوين العقل والرقي به, ومن ثم كتب على باب أكاديميته : لا يدخلها إلا من كان رياضيا.

    إن تعريف العلم, لا يقل صعوبة عن تعريف الفلسفة .وفي هذا المعنى يقول إدغارموران :{ إن السؤال ما العلم ليس له جواب علمي.} ومع ذلك يمكن أن نتجرأ, ونقول. أن العلم, هو ضرب من التفكير الوضعي, الموضوعي, الهادئ المنظم, الذي يقوم على رصد الظواهر واستقرائها, مع إخضاعها للتجربة والملاحظة الواقعية, قصد استخلاص القوانين التي تمكنه من التعميم.أما الفلسفة فهي نوع من التأمل النظري الخالص, الذي يبحث في القضايا الكلية الشاملة ,والمبادئ الكبرى, ويحمل في ذاته رؤى مختلفة, غالبا ما تنتج عنها مذاهب متعارضة ومتناقضة. لأنها تبحث فيما ينبغي أن يكون لا فيما هو كائن.

    إن العلم يميل إلى تجزيء الواقع, وعزله عن الحياة العامة ,كما هو الشأن في المختبرات العلمية. قصد التعمق في المعرفة, والوصول إلى اليقين, والتخلص من الخلاف في موضوعاته.لأن الحقيقة العلمية ,هي كالأعداد الرياضية , لا يختلف عليها اثنان في المعمورة . فهو يتجه دائما نحو الانفصال عن الأشخاص , وربط حقائقه بالملكية العامة . يلتزم بما هو كائن , ويتقيد بالظاهرة المدروسة , خاضعا في كل ذلك لقواعد المنهج التجريبي, وللواقع الذي يصفه, ويلاحظه ملاحظة علمية . فيوحي له بالفرضيات التي تصبح قانونا صارما , بعد أن يؤكدها الاختبار, وتحققها التجربة.(فالفكر العلمي ينتقل من الواقع إلى الفكر, ومن الفكر إلى الواقع.)

    أما الفلسفة ,فمجالها الرؤى الشاملة الكلية ,وغايتها بناء المقولات و المسلمات,التي تحمل في طياتها السمات الإنسانية , وتقبل التأويلات والخلافات النظرية . كما تفتح باب الجدل والمجادلة على مصرعيه محتضنة بذلك المذهبية والحزبية ,دون أن تدعي اليقين الذي نجده في العلم. وهي تفكير شمولي تهتم بمختلف الظواهر الكونية والإنسانية . قصد الكشف عن كنهها وغاياتها , والتعبير عنها في نسق عقلي شامل .

    إن العلم يبدأ من الواقع .أما الفلسفة فتنطلق من المعارف اليقينية, الثابتة علميا , لتنتهي إلى حل المشكلات الكبرى, التي تشغل الإنسانية جمعاء . وعلى هذا الأساس, يمكن أن نؤكد أن هناك اتصال, وعدم انفصال, بين الفلسفة والعلم.( فبدون الانطلاق من الواقع والتقيد به ,لا يكون هناك علم بهذا الواقع ,ومن غير الاعتماد على العلم, لن تكون هناك فلسفة.) إن العلم بمنهجه التجريبي الاستقرائي, يتكامل مع الفلسفة بمنهجها ألتأملي, العقلي, الاستنباطي فيساهم كل منهما في بناء الآخر .

    يقول ويل ديورانت الفيلسوف الأمريكي المعاصر:{ إن الفلسفة بغير علم عاجزة .إذ كيف تنمو الحكمة إلا على أساس المعرفة المكتسبة كسبا صحيحا , بالملاحظة الأمينة والبحث الصادق ,تسجلها وتوضحها عقول بعيدة عن الهوى؟ وبغير العلم تتدهور الفلسفة وتنحط, إذ تنعزل عن تيار النمو الإنساني ,وتقع أكثر فأكثر في سخافات المدرسية الكئيبة ,ولكن العلم بغير الفلسفة لا يصبح عاجزا فقط بل مخربا ومدمرا.} د. أحمد فؤاد الأهواني مكتبة الأنجلو المصرية القاهرة 1957 .

    إن العلم, كالفلسفة, نشاط فكري مرتبط بالإنسان, قد يستغل للهدم والتخريب, كما يستخدم للبناء والتشييد. فطغيان الإنسان وبعده عن الله وحبه للسيطرة, وتهافته على السلاح من أجل تحقيق النصر, وبوحي من أنانيته, يندفع إلى استغلال العلم استغلالا بشعا فيسخره ضد الإنسانية, من أجل مصلحة آنية أو منفعة مادية.كما تصبح الفلسفة مجرد إيديولوجيا أو ديماغوجيا , يدافع بها عن مصالح معينة ,ويبرر بها انتهازا ته المشينة , وتجاوزاته المقيتة .فمثلا باسم حقوق الإنسان والديموقراطية. دمرت أمريكا العراق, وأفغانستان, دون أن تراعي هذه الحقوق , وباسم محاربة أسلحة الدمار الشامل, تدمر أمريكا العالم بأسلحة الدمار الشامل تحت غطاء محاربة الإرهاب,ونشر الديموقراطية .

    فكم من فلسفة في النار, وتدعو أصحابها إلى النار؟ , وكم من علم يؤدي إلى الدمار والخراب ؟ في غياب الوازع الأخلاقي والديني وحب الإنسان.

     

     

        الرجوع

  • تعليقات

    لا يوجد تعليقات

    Suivre le flux RSS des commentaires


    إظافة تعليق

    الإسم / المستخدم:

    البريدالإلكتروني (اختياري)

    موقعك (اختياري)

    تعليق