• الشخص / 6

     

        الدرس رقم 1     الدرس رقم 2     الدرس رقم 3     الدرس رقم 4     الدرس رقم 5     الدرس رقم 6     الدرس رقم 7

    مجزوءة الوضع البشري  / الشخص

         

     تقديــم: يرتبط مفهوم الشخص بالإنسان دون غيره من الكائنات الحية الأخرى. وقد يتبادر إلى الذهن أن مفهوم الشخص واضح بديهي. فهل هو كذلك فعلا؟ما الشخص؟ هل يدل على وجود واقي متعين؟ هل يتحدد من خلال الصفات الخارجية، كصفات الجسد مثلا، أم يدل على وحدة مجردة خفية؟ لقد تساءل بليز باسكال عن ماهية الشخص أو الأنا وما إذا كانت ذاتا أو جوهرا قائما بذاته وراء التغير؟ أم أنه ليس إلا صفات عرضية لا غير؟ فبعد فحص احتمالات وجود الذات في النفس أو الجسم، لم يعثر باسكال إلا على صفات عرضية زائلة. فخلص إلى أن وجود الذات ليس وجودا بديهيا كما قد نعتقد لأول وهلة. إن وجود الأنا وجود إشكالي يستفز التفكير ويدفع إلى التأمل في كل أبعاد ذلك الوجود.

    فالإنسان كشخص يحيل باستمرار إلى ذاته من خلال استعمال ضمير " أنا " يعي ذاته كوحدة تظل مطابقة لذاتها على الدوام. إن له هوية خاصة، تبدو في اعتقاد كل واحد بديهية، غير أن هذه البداهة تطرح مع ذلك عدة إشكالات.فكيف تحدد هوية الشخص؟ كيف يعي الشخص ذاته كوحدة ثابتة رغم اختلاف الزمان والمكان ورغم ما يعتري الجسد من تغيرات؟

    ومن جهة أخرى، إن الإنسان كشخص يتجاوز مجرد كونه ذاتا واعية إن له قيمة أخلاقية، تجعله غاية في ذاته وليس مجرد وسيلة لتحقيق غايات ما. فعلى ماذا يتأسس البعد الأخلاقي للشخص؟ كيف يتحدد الشخص كذات أخلاقية لها كرامة؟

    و أخيرا، إن الإنسان كشخص، هو فرد في جماعة. لا تكتمل إنسانيته إلا من خلال تفاعله مع أغياره في إطار اجتماعي ثقافي، فيمتثل لما تقتضيه الحياة الجماعية من قيم و معايير أخلاقية وقانونية. مما يدفع إلى التساؤل عن حدود مسؤوليته عن أفعاله كذات واعية لها إرادة.

     

     

     

    المحور الأول: الشخــــص والهوية.

     لماذا التساؤل عن الهوية الشخصية؟يمكن القول أن سؤال الهوية يجد مبرره في كونه أبسط أشكال و تمظهرات الوعي بالذات. بصيغة أخرى إن الوعي في التجربة البسيطة العامة يتمظهر في الشعور بالتمايز والانفصال عن الغير والإحساس بالذات بوصفها هي هي . وإذا كان الأمر كذلك، فعلى أي شيء تنبني الهوية الشخصية؟

    في كتابه "مقالة في العقل البشري" خصص جون لوك فصلا كاملا لمسألة الهوية الشخصية تحت عنوان "حول الهوية والتنوع". انصب اهتمامه في هذا الفصل على تحديد مفهوم الهوية الشخصية ومفهوم الشخص في ضوء تصوره العام للهوية. إن الشخص، حسب تعريف جون لوك، كائن عاقل مفكر، ويكون على وعي بأنه هو نفسه ذلك الكائن العاقل حيث ما كان وفي أي زمان كان، يعي بأنه هو نفس الشخص الذي قام بفعل معين، ويظل ذلك الفعل لاصقا بهويته ووعيه مهما تغيرت الظروف وتعاقبت الأزمان. هذا يعني ، من جهة ، أنه إذا كان الوعي مرتبط بالزمان، بالماضي، فإن الذاكرة هي كذلك أساس الهوية. ومن جهة ثانية، يدل ما سبق على أن الوعي ليس مجموعة من الأفعال الفارغة من كل مضمون واقعي تجريبي، بل إنه مبني ومستنبط من جميع الحالات الشعورية ومن مختلف الإدراكات الحسية التي تعيشها الذات.

    نستنتج إذن، أن الهوية الشخصية تتكون من الوعي والشعور اللذان يميزان الشخص ككائن مفكر وعاقل، كما تتكون من الذاكرة التي هي امتداد للشعور عبر الزمان والمكان.

    على خلاف هذا الطرح، يطالعنا الفيلسوف الألماني، شوبنهاور بتصور فريد في تاريخ الفلسفة. فإذا كان الفلاسفة قد عرّفوا الإنسان بأنه حيوان عاقل ، أي أنه يفكر يعرف ويدرك، فإن شوبنهاور يطالبنا بأن نصحح هذه الغلطة الشائعة في تاريخ الفلسفة. إن الوعي في نظره ليس إلا وظيفة بسيطة للمخ، إنه مجرد أداة في خدمة الإرادة.إن الإرادة – لا العقل– هي جوهر الطبيعة البشرية والوجود الإنساني.إنها اندفاع أعمى لا عقلي نحو الحياة. يقول شوبنهاور : " هي الطبيعة العميقة للأشياء ، و جوهر كل شيء .إنها تتجلى في كل قوة عمياء مندفعة في الطبيعة كما تظهر في كل فعل إنساني ، ويرجع الاختلاف في هاتين الصورتين إلى درجة تجلي الإرادة في كل منهما فهو اختلاف في درجة الوضوح ، وليس اختلافاً في طبيعة الإرادة " .. تقول الباحثة هيلين زيمرن " إن الإرادة هي الفاعل والمحرك في كل الوظائف الجسمية واللاشعورية والباطنية ، وإن الوجود العضوي نفسه لاشيء بدون الإرادة . وفي كل القوى الطبيعية عمل أو نشاط  يتحقق بالإرادة . وفي كل الحالات حيث نجد أي حركات ذاتية أو قوى أصلية رئيسية ، فينبغي إرجاعها إلى ماهيتها الباطنية كإرادة.".ومن جهة أخرى يرى أن الذاكرة لا تكفي لتفسير الهوية، فاختفاؤها أو تلفها لا يفقد الهوية.كما أن الذاكرة ليست إلاّ أداة في يد الإرادة ولنلاحظ إلى أي مدى يطول تذكرنا لانتصاراتنا، والسرعة المذهلة التي ننسى بها هزائمنا، وليس وراء ذلك من سبب سوى الإرادة. من هنا يمكن القول أن أساس الهوية الشخصية هي الإرادة. والإرادة هي الشيء المطلق في الذات، وليس الوعي أو الشعور و لا الذاكرة. فإذا كان العقل يصيبه الإرهاق ، فإن الإرادة تعمل باستمرار للمحافظة على الذات. فالإدراك ليس إلاّ مجرد سطح خارجي لعقولنا ، إذ أن وراء العقل الواعي تكمن الإرادة اللاواعية. ومن ثم ينبغي ، في رأي شوبنهاور ، أن نعرف الإنسان بأنه إرادة.

    الأنا، إذن، وحدة صورية مستقلة وأصيلة، إنه هوية تستمر عبر الزمان. وإن تساءلنا عن أساس وعينا بهويتنا فلا نتساءل عن هذه الهوية وعن ثبات الأنا ووحدته. فوعي الإنسان بأناه واضح بديهي رغم أن هذا الوضوح وهذه البداهة يمكن تأويلهما بإرجاعهما على العقل تارة أو إلى الشعور أخرى أو الإرادة. لكن ألا يمكن إرجاع وعي الذات بهويتها إلى بعد آخر غير البعد المعرفي؟ ألا تنبني هوية الشخص على وعيه ببعده الأخلاقي وبالإنسانية الكامنة فيه؟ وقبل ذلك هل الشخص مفهوم نظري وفكرة مجردة؟ أليس كيانا واقعيا يعيش واقعا ويرتبط بغيره في إطار اجتماعي وثقافي؟

     

     

     

    المحور الثاني: الشخص كقيمة.

    إذا كانت التصورات الفلسفية السابقة تنظر إلى الشخص كذات واعية له إرادة يحس بتميزه ويشعر بذاته في مقابل ذوات أخرى. فهل يمكن أن تترتب على هذا التصور نتائج أخلاقية؟ هل يمكن أن تتحدد قيمة الإنسان من خلال كونه كذلك؟

    يرى الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط ، في مؤلفه" أسس ميتافيزيقا الأخلاق" أن الإنسان،  أسمى من أن نعتبره مجرد معطى طبيعي مثله مثل الأشياء. كما أنه أكثر من كونه كائن عاقل، لأن هذا لا يضفي عليه إلا قيمة خارجية مبتذلة. إنه أساسا ذات لعقل عملي أخلاقي يستمد منه كرامته. وهي قيمة داخلية مطلقة تجعل منه شخصا يتجاوز كل تقويم وكل سعر. ويكون بذلك غاية في ذاته لا وسيلة لتحقيق غايات ما. وبما هو كذلك يحس بالإنسانية التي تجثم في ذاته. ويعامل غيره على قدم المساواة ويكون احترامه لذاته أساس احترامه لكل شخص وللإنسانية جمعاء. فإذا كان الشخص ذات لعقل عملي أخلاقي، فإن المبدأ الذي يحكم العقل هو التالي: " تصرف، على نحو تعامل معه الإنسانية في شخصك، كما في شخص غيرك، دائما وأبدا، كغاية وليس مجرد وسيلة بتاتا".

    إذا كان كانط يحدد قيمة الشخص من منظور أخلاقي، كذات يحكم وجودها ما يمليه العقل العملي ومبدأ الواجب، فإن هذا التصور في نظر جورج غوسدورف نصور نظري ميتافيزيقي. أي أنه يتناول الوجود الإنساني كمشكل نظري محض. إن الشخص الأخلاقي  في نظره، لا يوجد إلا بالمشاركة ولا يستكين إلى العيش بمعزل عن الآخرين. إن فكرة الشخص المستقل والمكتفي بذاته فكرة إيديولوجية ولا تمثل الواقع الأصلي للإنسان. إنها في نظره فكرة حديثة العهد لأنها تحتاج إلى جهد تنظيري وفكري لتتحقق. إن فكرة الشخص الكانطي تتأسس على مبادئ أخلاقية كلية أبدعها العقل. أما الشخص بمعناه الحقيقي هو ما تتأسس أفعاله على أخلاق ملموسة، ويتحدد وجوده ووعيه بذاته من خلال تفاعله مع الغير وانفتاحه على العالم. إن الغنى الحقيقي لا يكمن في العزلة ولكن في المشاركة والعطاء. 

    نستنتج من كل ما سبق أن فكرة الشخص أثارت العديد من النقاش لما كانت تفتح عليه من رهانات تلامس الواقع الإنساني. إنها كانت الأساس الذي بنيت عليها المجهودات  الفكرية لبناء تصورات جديدة لواقع إنساني أكثر عدلا وديمقراطية. وإذا اختلفت التصورات حول هذه الفكرة فإنها كانت تجمع على اعتبار الشخص الإنساني قيمة في ذاته. ولا غرابة إذن أن تكون هذه الفكرة أساس المواثيق الدولية حول حقوق الإنسان، و حجر الزاوية في النظم التشريعية المؤسسة للدول الديمقراطية.

     

     

     

    المحور الثالث: الشخص بين الضرورة والحرية.  

    إذا كان الشخص يستمد قيمته من خلال المشاركة والتضامن وانفتاحه على الآخرين وارتباطه بالغير، فهل يفقد بذالك خصوصياته؟ أو بصيغة أخرى هل الشخص حر أم أن وجوده مشروط بحتميات وضرورات مادية وأخلاقية؟ ألا يمكن أن نعتبر أن حرية الشخص لا معنى لها ولا تثبت إلا في إطار التضامن والعيش الجماعي؟  

    يرى الفيلسوف الوجودي الفرنسي جون بول سارتر، أن الإنسان مشروع. أي أن وجوده يقوم على ما يحدده لذاته من خلال التعالي على وضعه وحاضره.إن الوجود الإنساني، في نظره، وجود قبل أن يحدد كماهية. إنه ليس ماهية ثابتة بل إنه عدم استقرار دائم ووثوب مستمر نحو المستقبل وانفتاح دائم على العالم والآخرين. في كتابه " الوجود والعدم " يقدم سارتر أطروحته الأساسية حول الإنسان حيث يعتبر أن الوجود سابق فيه على الماهية. أي أن الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على أن يختار ماهيته على ضوء ما يحدده لنفسه كمشروع. إن الإنسان وعلى خلاف الكائنات الأخرى يوجد أولا ثم يختار ما يريد أن يكونه. إن الوجود الإنساني اختيار وحرية. من هذا المنطلق ينتقد التصورات التي ترجع هذا الوجود إلى عوامل إشراطه. هذا في نظره يفضي إلى السقوط في الحتمية العلموية. بحيث يتم اختزال الحاضر في الماضي وفهم الحاضر من خلال إرجاعه إلى الماضي. إن الإنسان بما هو مشروع، وبما هو وجود حر يفلت من كل حتمية ولا يمكن بالتالي فهم حاضره إلا من خلال المستقبل. فهذا الأخير هو ما يضيء الحاضر ويتيح فهم الشخص. 

    إذا كان سارتر يعتبر أن الشخص حر في اختياراته، فإن تصوره لهاته الحرية قد لا يصمد أمام الوضع الواقعي للإنسان كشخص. إذ لا يعيش الشخص دائما وأبدا وفق ما يختاره لذاته. فظروف وجوده قد تحول دون تحقق اختياراته تلك. في المقابل يقترح علينا الفيلسوف الشخصاني الفرنسي، إمانويل مونييه تصورا يعلي من قيمة الشخص بحيث يرى، أن للشخص قيمة مطلقة لا يجوز انتهاكها.  فالشخص في نظره هو مركب وموجود في ذاته وفي العالم وأمام القيم. إنه ليس مجرد فرد في مقابل الجماعة،كما أن المجتمع ليس ذرات فردية متباعدة. إن الشخص يحتاج إلى الخروج من ذاته نحو الخارج, أي نحو المجتمع، و لابد لهذا الشخص من أن يتمتع بالحرية الداخلية والحرية الخارجية كذلك. ولا يمكن عزل الحرية الشخصية عن الحرية الجماعية. فمونييه يرى أن الشخص لا يكون حرا إلا حينما تكون جميع المخلوقات الإنسانية المحيطة به حرة كذلك. إذا كانت النزعة الفردانية تغلب على التصورات الرأسمالية للشخص، فإن مونييه، يرى أن الشخص حركة نحو الغير  وحريته لا يمكن إلا أن تكون محصورة ومشروطة. أن تكون حرا هو أن تعي حدود حريتك وما يفرضه عليك وضعك الواقعي كإنسان. وهذا لا يعني الخضوع المطلق للضرورة.

    نستنتج أن تصور مونييه، ورغم اعترافه بحدود الحرية الإنسانية، فإنه يرى أنها ليس حالة مادية معيشة فقط. إنه يركز عليها باعتبارها وعيا من لدن الذات بعلاقاتها بعالمها و بأغيارها. وكيف تعيش الذات حدود حريتها.

     

     

    خلاصة عامة:

    لعل أول مشكل يثيره مفهوم الشخص هو مشكل دلالته. بحيث غالبا ما يتم ربط الشخص بمظاهره الجسمية والنفسية. فهل يمكن اختزاله في مظاهره ألا يكون الشخص مستقلا عن هذه المظاهر؟ ومن جهة أخرى يحيل مفهوم الشخص،ورغم ما يعتريه من تغير، مشكل الهوية. وقد نرجعها إلى الوعي أو الشعور أو الإرادة تبعا للمنظور الذي يتم منه البحث فيها. ومهما يكن من أمر ذلك، فإن الشخص يعي تميزه ويبقى دائما هو هو. فتبقى الهوية عندما ننسى كل شيء وعندما نتغير كلية. ورغم ما يؤسس الهوية فإن مفهوم الشخص يطرح مشكل قيمته كشخص وما يميزه عن الأشياء والوسائل. واتضح أن الشخص غاية في ذاته وذات لعقل أخلاقي عملي تأكد قيمته الأخلاقية من خلال المشاركة والتضامن والانفتاح على الغير. وإذا كان الارتباط بالغير ضرورة حياتية، فإن ذلك لا يفقد الشخص خصوصياته وحريته، وإن كانت حريته حرية مشروطة بعوامل ذاتية وموضوعية.

    إن مفهوم الشخص إذن مفهوم فلسفي إشكالي، يفتح على مجالات أخرى حقوقية أخلاقية وسياسية. كما أنه يفترض مقاربات متعددة فلسفية وعلمية... وإن كان قد يفلت من كل تحديد ومن كل مقاربة تحاول سلب خصوصياته ككائن حر أخلاقي يدخل في علاقات مع أغياره، يساهم في التاريخ الإنساني، ويثبت حريته في إطار التضامن واحترام الكرامة الإنسانية.

     

     

    المصدرhttp://philo-taoudi.over-blog.fr

     

        الدرس رقم 1     الدرس رقم 2     الدرس رقم 3     الدرس رقم 4     الدرس رقم 5     الدرس رقم 6     الدرس رقم 7

     

        الرجوع

  • تعليقات

    لا يوجد تعليقات

    Suivre le flux RSS des commentaires


    إظافة تعليق

    الإسم / المستخدم:

    البريدالإلكتروني (اختياري)

    موقعك (اختياري)

    تعليق